قال الفيلسوف كروتشيه تلك العبارة: "إن الشر هو المحرك الدائم للحياة الروحية". والواقع، أنه لا قيام للحياة الروحية والخلقية السليمة دون التصادم مع الشرور والأشرار في معارك طويلة الأمد لا يمكن تفاديها لسبب بسيط وهو أن الشر كامن فينا يجري في عروقنا، ولأنه مرتبط ووثيق الصلة بطبيعة تكويننا، وهي الطبيعة الفاسدة التي ورثناها من أبينا الأول آدم حين أخطأ في جنة عدن، بعد أن منحه الله حرية الإرادة، وأساء استخدامها.
ولنرجع إلى أصل قصة الشر الذي فينا كما جاءت في الكتاب المقدس. فقد "جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حية. وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً، ووضع هناك آدم الذي جبله... وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت... فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم... فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل... فأخرجه الرب الإله من جنة عدن" (تكوين 7:2-8، 16-17، 21-22، 6:3 و23).
وهنا نقول: إنه من السهل أن يرسم لنا أحدهم صورة نقية شفافة للإنسان، لكنه عندئذ لن يكون قد وضع أمامنا إنساناً نابضاً بالحياة بل أسطورة وهمية تفتقد إلى الخبرة البشرية. لذلك لا جناح على الإنسان إذا اشتبك مع الشر، وذاق كأس الألم، وتجرع مرارة اليأس ما دام هناك أيضاً خير وخلاص، وما دام الله الذي أعطى آدم وبنيه حرية الإرادة، وسمح لهم بالسقوط قد أعدّ خلاصاً وفداء وإنقاذاً!!!
ولعله من المفيد أن نذكّر القارئ بما كررناه سابقاً، بأن سماح الله بالشر والألم والخطيئة لا يعني ترحيبه وحبه بها، بل الذي أسقط آدم وحواء هو إساءة استخدام حرية إرادتهما. فالله قدوس أعطى شريعته لخلائقة، وحثهم فيها على العمل بها. وهي تنهي عن كل خطية وشبه خطية، وهو تعالى لا يسر بالإثم، بل يرغب أن يرجع إليه الشرير ويحيا. وقد أعدّ وسائط مجيدة لإرجاع الإنسان عن شره، وأعدّ له خلاصاً حتى من قبل أن يسقط آدم نفسه. ولأن الله عالم بكل شيء، وهو ليس محدوداً بمكان أو زمان، صرح لنا في كتابه المقدس أن الإنسان هو أصل شره، ووضع في الإنسان ضميراً يعلمه متى عمل الشر أن ذلك مخالف للشريعة، ومتى عمل الصالح أن ذلك موافق لتلك الشريعة. وقد استعمل الله وسائط كثيرة لمنع شر الإنسان، فأعطى للبشر الوحي، وأرسل الروح القدس ليعمل على توبة الخطاة، وهو يؤدبهم – ولو بعد حين – ووضع خوف القصاص في قلوبنا، بل إن ما في العالم من شقاء وآلام ناتجة عن الشر يبين كراهة الله للخطيئة وغضبه على الخطاة – إذا لم يتوبوا عن شرهم – حتى أنه أعدّ لهم ناراً لا تُطفأ ودوداً لا يموت.
والواقع إن سماح الله بالآلام لهو من الوسائط القوية لإصلاح الناس. فهو يبين حقيقة عذاب الآخرة، ويميل قلوب الناس لطلب الراحة الأبدية في السماء. وسماح الله بالآلام هو من الوسائط للحدّ من تفاقم الخطيئة. فلولا البلايا الناتجة عن المعاصي لامتلأت الأرض من طغيان الشر. فكثيراً ما كانت آلام وأمراض الطاعنين في الشر رادعاً يحول دون توغل البعض في مثل أعمالهم. ويستخدم الله الآلام لتعليم البشر الصبر، والتواضع، واللطف، والشفقة، وكثيراً ما استخدم تلك الآلام لتهذيب وتدريب خدامه الأمناء حتى يقوموا برسالتهم على خير وجه.
وخلاصة ما تقدم، إن سماح الله بسقوط الإنسان والآلام التي ترتبت على ذلك لهو الدافع الأساسي لإظهار خلاصه، ورحمته، وعدله، واستعمال هذا الشقاء لخير الإنسان وتهذيبه، وهذا ما قصده الكتاب المقدس في قوله: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه".